تحتفل دولة إسرائيل بعيد ميلادها الخامس والسبعين في عام 2023، وهو العام الذي سيمثل أيضًا حدثًا رئيسيًا لم يلاحظه أحد في الصراع العربي الإسرائيلي.
خلال السنوات الخمس والعشرين الأولى لإسرائيل، من عام 1948 إلى عام 1973، حاربتها الدول العربية – مصر والأردن وسوريا في المقدمة، يليها العراق والسعودية ولبنان – خمس مرات بالقوات المسلحة التقليدية. قاموا ببناء جيوش ضخمة، متحالفين مع الكتلة السوفيتية، وقاتلوا إسرائيل في ساحة المعركة الفعلية. بعد عام 1973، انسحبت تلك الدول بهدوء وبقيت هادئة على مدى السنوات الخمسين التالية – أي ضعف المدة التي قاتلت خلالها إسرائيل.
الاستثناءات القليلة لهذا السلام البارد – ولا سيما المواجهة الجوية السورية في عام 1982 والهجوم الصاروخي العراقي في عام 1991 – تساعد في توضيح هذه النقطة. إن قصرها ومحدوديتها وفشلها فرض الحكمة في عدم مواجهة إسرائيل. خسر الطيران السوري 82 طائرة فيما لم يخسر سلاح الجو الإسرائيلي شيئًا. وأسفر 18 هجومًا صاروخيًا عراقياً منفصلاً عن مقتل إسرائيلي واحد بشكل مباشر. بدأ النظامان العراقي والسوري برامج نووية لكنهما تخلَّا عنهما بعد تعرضهما لهجمات إسرائيلية في 1981 و-2007 على التوالي.
على الرغم من أن معظم الدول العربية استمرت في مهاجمة إسرائيل لفظيًا واقتصاديًا بعد عام 1973، إلا أنها انسحبت بعناية من المواجهة العسكرية. بالتركيز على قضايا أخرى – التهديد الإيراني، والاندفاع الإسلاموي، والحروب الأهلية في ليبيا واليمن وسوريا والعراق، وتركيا المارقة، والجفاف المائي – فقدت المحرمات المعادية للصهيونية الكثير من سيطرتها في البلدان الناطقة باللغة العربية.
وبدأت ست دول عربية علاقات دبلوماسية كاملة مع إسرائيل: مصر في 1979، والأردن في 1994، وكل من الإمارات العربية المتحدة والبحرين والمغرب والسودان في 2020. (بدأت دولتان عربيتان أخريان في هذا الاتجاه لكنهما لم يواصلا: لبنان عام 1983 وسوريا عام 2000.) من المتوقع على نطاق واسع أن تتبع المملكة العربية السعودية في نفس الاتجاه ولكن بعد انتهاء حكم الملك سلمان البالغ من العمر 87 عامًا، الأمر الذي من شأنه أن يحرك بشكل كبير مركز الثقل العربي لصالح قبول إسرائيل.
حدثت التغييرات بعدة طرق. اندلعت دموع وزير الرياضة الإسرائيلي في عام 2019 عندما تم عزف النشيد الإسرائيلي "هاتيكفا" في أبو ظبي بعد فوز رياضي إسرائيلي. وفي سبتمبر 2020 وحده، استذكر خطيب المسجد الحرام في مكة علاقات النبي محمد الطيبة مع اليهود، ورفضت جامعة الدول العربية قرارًا برعاية فلسطينية لمناهضة إسرائيل، و-"نصحت" حكومة الإمارات جميع فنادقها "بإدراج خيارات طعام كوشير" في جميع قوائمهم للطعام.
كان حضور أربعة وزراء خارجية عرب في اجتماع استضافته إسرائيل في أوائل عام 2022 (قمة النقب) يرمز إلى هذا القبول الجديد. وبشكل أكثر جوهرية، باعت إسرائيل معدات عسكرية متطورة للإمارات والبحرين والمغرب بلغ مجموعها أكثر من 3 مليارات دولار في عامين؛ في عام 2021 شكل ذلك 7% من 11.3 مليار دولار من المبيعات العسكرية الإسرائيلية العالمية. وبيع المعدات العسكرية يشير إلى أن هذه الحكومات يُتوقع أن تظل حليفة على المدى الطويل.
ضمت قمة النقب 2022 في بئر السبع وزراء خارجية، من اليسار إلى اليمين: البحرين، مصر، إسرائيل، الولايات المتحدة، المغرب، والإمارات العربية المتحدة. |
لكن مع خروج الدول العربية من ساحة العداء للصهيونية، أخذت مكانها مجموعة من الجهات الأخرى: الفلسطينيون، والإسلاميون، والحكومتان الإيرانية والتركية، واليساريون. اختفت القوات المسلحة التقليدية تقريبًا من ساحة المعركة – أي السفن والدبابات والطائرات والصواريخ – واستبدلت بأساليب أخرى للهجوم: الطعن، والطائرات الورقية المسلحة، والتفجيرات الانتحارية، وأسلحة الدمار الشامل، وحركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS).
لماذا حدث هذا التحول وما هي تداعياته؟ بعض التاريخ يساعد في الإجابة على هذين السؤالين.
الدول العربية تنحني
أصر القادة العرب خلال 25 عامًا من المواجهة مع إسرائيل على أنهم سيثابرون دائمًا. على سبيل المثال، في 10 يونيو 1967، بعد أربعة أيام فقط من خسارتهم الكارثية في حرب الأيام الستة، قال الرئيس الجزائري هواري بومدين "إذا خسرنا معركة واحدة، فلن نخسر الحرب كلها ... يجب أن تستمر الحرب ... حتى يعود الحق إلى مكانه الصحيح، حتى يتم تدمير العدوان وحتى يتم إلغاء ما تم فرضه بالقوة الغاشمة ... يجب ألا نلقي السلاح." وفي اليوم التالي، ضاعف من حديثه عن هذه الرسالة، متحدثًا عن "الطريق إلى النصر ... ومواصلة المعركة بغض النظر عن مدى صعوبة ذلك أو الثمن الذي يتعين علينا دفعه." على الرغم من هذا التبجح، تخلت الدول العربية عن المواجهة المسلحة بعد ست سنوات فقط.
ساهمت عدة عوامل في تراجع الدول العربية: الخسائر في ساحة المعركة، وتطرف الجماهير، والتشاؤم، والاقتصاد، والفوضى، والإسلاموية، وإيران.
خسائر ساحة المعركة: خاضت الدول العربية الحروب ضد إسرائيل خمس مرات (1948-1949، 1956، 1967، 1970، و-1973) وخسرتها جميعًا بشكل مهين. وعلى وجه الخصوص، تركت هزيمتيّ 1948-1949 و-1967 الزعماء العرب في حالة صدمة. بدت لهم إسرائيل المولودة حديثًا ضعيفة للغاية ولكن في الوقت نفسه كانت حرب الأيام الستة أكبر كارثة غير متوازنة في التاريخ العسكري. أضف إلى ذلك الاكتساح الجوي 82-0 عام 1982، مما أفقد المواجهة المباشرة مع إسرائيل جاذبيتها. ابتعدت الدول على أطراف أصابعها.
الجماهير الراديكالية: كان الخطاب المعادي لإسرائيل يعد بأكثر مما يمكن لقادة الدول العربية الوفاء به. في البداية اعتقدوا أن إثارة العداء والدعاية ضد إسرائيل يصرف انتباه سكانهم عن مشاكلهم الداخلية، وبالتالي يخدمهم جيدًا. أتقن هذا الفن جمال عبد الناصر، الذي حكم مصر ما بين عامي 1954 و-1970، وحصل على استحسان كبير، حيث كان يرجع أي مشكلة تقريبًا إلى "الصهاينة". ومع ذلك، بحلول عام 1973، أدرك القادة العرب أن معاداة الصهيونية المستمرة قد خلقت نمرًا بالكاد يستطيعون ركوبه، لذا فقد خففوا من حدة الخطاب والأفعال.
التشاؤم: كانت هناك مجموعة قوية من الأيديولوجيات اليسارية، منها مناهضة الإمبريالية، والاشتراكية العربية، والعالم الثالث، تميز السياسة العربية حتى وقت وفاة عبد الناصر في عام 1970. خلال تلك الفترة، كانت الحكومات تشع بتفاؤل، مهما كان فظًا وغير محسوب عن قدراتهم الخاصة. على سبيل المثال، تميزت الخطابات التي أحاطت بحرب الأيام الستة بتلك الثقة الصارخة والحماقة والتكلف، حيث أعلن ناصر أن "الحرب ستكون شاملة، والهدف سيكون تدمير إسرائيل. نشعر بالثقة في قدرتنا على الانتصار ومستعدون الآن للحرب مع اسرائيل."
هدأ هذا التفاؤل الطائش في نهاية المطاف، وحل محله شعور مرير بالواقعية والرصانة والتقيد. غذّت هذا التغيير الإخفاقات العسكرية المتكررة ضد إسرائيل وخيبة الأمل الواسعة. عندما نظر العرب حولهم وجدوا أنفسهم محاصرين بالقمع والظلم والتخلف والفقر، كما يوضح تقرير التنمية البشرية العربية لعام 2002 السلبي للغاية والذي نوقش كثيرًا. حلت الكآبة محل الأمل، وحل الاستبطان اللاذع محل الطموح الواسع.
وقع جمال عبد الناصر والعاهل الأردني الملك حسين اتفاقية دفاع مشترك قبل أيام من حرب الأيام الستة. |
الاقتصاد: أدت الصعوبات التي أعقبت الطفرة النفطية ما بين 1970 و-1980 إلى تفاقم هذا التحول. جلبت عائدات النفط الهائلة نموًا وطنيًا هائلاً خلال تلك السنوات القوية والمبهجة. وتصدر منتجو النفط الطريق بالطبع، لكن الدول التي قدمت خدمات للمنتجين، مثل مصر والأردن، استفادت أيضًا. حافظ لبنان على مستوى معيشة اقتصادي مرتفع بشكل مذهل خلال معظم الحرب الأهلية من 1975 إلى 1990. لم يجلب تدفق الأموال القوة الاقتصادية والدبلوماسية فحسب، بل جلب إحساسًا بأن صدمة الحداثة قد اختفت. بدت أخطاء الماضي وكأنها تجرف بعيدًا مع ظهور مستقبل مشرق. لبضع سنوات مجيدة، بدا أن النفط سيحل مشاكل العرب وربما ينهي إسرائيل التي وجدت نفسها مضغوطة بلا رحمة (مثلا، عندما قطعت 25 من دول جنوب الصحراء الأفريقية العلاقات معها بعد حرب 1973).
لكن الشراهة نادرا ما تمر دون عقاب. أدى تسمم السبعينيات إلى مخلفات الثمانينيات. تمامًا كما باركت الطفرة الدول العربية، أصاب الانهيار كل دولة منها تقريبًا، مما أدى إلى تراجع المكاسب السابقة. يمكن تتبع عواقب تراجع النفط بدقة في العديد من المجالات، من أسعار الفن الإسلامي في دور المزادات في لندن إلى إعادة الدول الأفريقية علاقاتها مع إسرائيل (42 من أصل 44 من دول جنوب الصحراء الأفريقية التي لم تكن بجامعة الدول العربية).
تقوم دار سوذبيز في كثير من الأحيان ببيع مجموعات "فنون العالم الإسلامي" بالمزاد العلني. حدث هذا في 1 مايو 2019. |
في نهاية المطاف جعل الاقتصاد الدول العربية أقرب إلى إسرائيل. في عام 2018، أشار رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، بنيامين نتنياهو، إلى "تغير كبير" في العالم العربي الذي صار له صلات متزايدة بإسرائيل بسبب حاجته إلى "التكنولوجيا والابتكار والمياه والكهرباء والرعاية الطبية والتكنولوجيا الفائقة."
الفوضى: الحكومات العربية التي اشتهرت ذات يوم بالديكتاتورية (مثل حافظ الأسد وصدام حسين)، واجهت مؤخرًا تحدي السيطرة على رعاياها. أجزاء كبيرة من ليبيا ومصر (شبه جزيرة سيناء) ولبنان واليمن وسوريا والعراق أصبحت فوضوية. من الواضح أن الأنظمة التي لا تحكم أراضيها بالكامل لا تستطيع أن تلعب دورًا قويًا خارج حدودها.
الإسلاموية: أدى صعود الإسلاميين، الذين ظهروا بعد حرب 1973 بفترة وجيزة وكونوا أقوى معارضة محلية في كل دولة عربية تقريبًا، إلى تفاقم ضعف الدول. وبتفانيهم أيديولوجياً قاموا بتهديد الحكومات بشكل مباشر كما لم يفعل الإسرائيليون البعيدين اللطفاء بالمقارنة. من مذبحة حماة عام 1982 في سوريا إلى مذبحة رابعة في القاهرة عام 2013، أعطت الحكومات العربية الأولوية لقمع خصومها الإسلاميين بضراوة. اتضح أن معاداة الصهيونية كانت ترفًا – شيء يجب الترويج له عندما يكون ذلك مناسبًا، ووضعه جانبًا عندما لا يكون كذلك.
إيران: بمجرد تولي آية الله الخميني السلطة في عام 1979، شكلت طهران تهديدًا لجميع الدول العربية باستثناء حليفها السوري، مما جعل القضية الفلسطينية فكرة متأخرة. أدت الحرب العراقية الإيرانية من 1980 إلى 1988 إلى تحويل الانتباه بشكل كبير عن إسرائيل. ثم حل التخريب محل الحرب المباشرة، مما زاد من التهديد الإيراني لدرجة أن الملالي سيطروا على عواصم أربع دول عربية (العراق وسوريا ولبنان واليمن) وأرسلوا طائرات بدون طيار لضرب منشأة نفطية سعودية. بدأت التحالفات المناهضة لإيران مع إسرائيل سراً بعد الثورة الإيرانية بفترة وجيزة، ولكن لم يتم الاعتراف بها علنًا إلا باتفاقيات إبراهيم.
الآخرون ينضمون
مع انحسار الدول العربية، اندفع آخرون، بدءا بالفلسطينيين. نظرًا لتورطهم الأكبر في الصراع فإنهم الأعداء الأكثر حماسًا لإسرائيل، وإن كانوا الأقل حجما. أسلافهم قادوا معاداة الصهيونية قبل عام 1948. لنتذكر مفتي القدس، الحاج أمين الحسيني، والثورة العربية 1936-1939. وصعدوا إلى الواجهة مرة أخرى بعد عام 1967 بسحق ثلاث قوات مسلحة عربية في ستة أيام. شجع هذا الفشل الذريع الفلسطينيين على إعادة تأكيد أولويتهم في النضال ضد الصهيونية، لكن الاعتراف الذي فازوا به آنذاك كان رمزيًا أكثر منه حقيقيًا، حيث ظلت مصالح الدول هي الأهم. يعود الاعتراف الحقيقي بالأولوية الفلسطينية إلى عام 1974، عندما اعترفت جامعة الدول العربية بمنظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها "الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني" ومنحتها العضوية الكاملة في الجامعة. وقد أكدت اتفاقيات أوسلو عام 1993 تلك المركزية.
على الرغم من افتقارهم إلى موارد الدول العربية، وافتقارهم إلى اقتصاد أو جيش محترم، فقد أنجز الفلسطينيون أكثر مما أنجزته الدول العربية في أي وقت مضى. قد تكون الحروب الفلسطينية العديدة (1982، 2006، 2008-2009، 2012، 2014، 2021) حروبا غير متوازنة لصالح إسرائيل عسكريًا، ولكنها خدمت الغرض بجعل إسرائيل تبدو سيئة. خسرت ثلاث قوات مسلحة عربية أمام إسرائيل في ستة أيام لكن منظمة التحرير الفلسطينية تمكنت من الصمود ضد إسرائيل لمدة 88 يومًا في عام 1982. خسرت الدول العربية شبه جزيرة سيناء وغزة والقدس الشرقية والضفة الغربية ومرتفعات الجولان لصالح إسرائيل، بينما أقنع الفلسطينيون إسرائيل بتسليمهم غزة وأجزاء من الضفة الغربية. أدانت الحكومات والشعوب الغربية إلى حد كبير هجوم الدول العربية على إسرائيل لكنها أيدت على نطاق واسع الهجمات الفلسطينية عليها. بينما شعرت الدول العربية بأنها ملزمة باحترام المعاهدات مع إسرائيل، مهما كان ذلك الاحترام باردًا، فإن الفلسطينيين كأنما يتمتعون بحصانة شبه كاملة دمروا اتفاقيات أوسلو وكل اتفاقية أخرى. لم يتناقض إصرارهم مع الدول العربية الضعيفة فحسب، بل إن نجاحهم أحرج فشل تلك الدول.
فتح الإسلاميون جبهة أخرى. لقد ظهروا بعد عام 1973 بفترة وجيزة كقوة قوية ومعادية لإسرائيل في جميع أنحاء العالم. كان لنقدهم اللاذع التأثير الأكبر في البلدان ذات الأغلبية المسلمة، إما من خلال الضغط على الحكومات (الجزائر في التسعينيات)، أو الاستيلاء عليها (مصر في عهد محمد مرسي)، أو تدميرها (سوريا منذ 2011). كما أنهم ينشرون بشكل فعال رسالتهم المناهضة للصهيونية في الغرب، لا سيما عندما يتشاركون مع اليساريين، مما ينتج عنه تأثير على المؤسسات التعليمية والعمل الخيري ووسائل الإعلام والأنظمة القانونية والسياسيين.
بينما حافظ شاه إيران على علاقة عمل هادئة مع إسرائيل، حوّلت الثورة الإسلامية 1978-1979 الحكومة الإيرانية إلى عدو متعصب، مع استخدام معاداة الصهيونية كأساس لمبادئ النظام والدعاية. مما رمز لهذا التوجه الجديد، كان اللقاء الأول لآية الله الخميني يزعيم أجنبي هو بزعيم منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات، كما أقام يومًا سنويًا للقدس. نظمت طهران ومولت العديد من المنظمات لمهاجمة إسرائيل، بما في ذلك حزب الله وحماس والجهاد الإسلامي الفلسطيني، في حين أن برنامجها النووي يمثل أكبر تهديد منفرد لأمن إسرائيل. بدورها أصبحت إسرائيل بمثابة ضمير العالم وسلاحه المحتمل تجاه ترسانة إيران النووية.
ياسر عرفات يقبّل آية الله الخميني للاحتفال بلقائهما الأول في 18 فبراير 1979. |
كانت العلاقات التركية الإسرائيلية نموذجًا للتعاون بين المسلمين واليهود، وقد بلغت ذروتها في أواخر التسعينيات. تغير ذلك في عام 2002 مع انتخاب حزب العدالة والتنمية الإسلامي. في حين افتقر التغير التركي إلى السرعة والاتساق والشمولية التي اتسم بها التغير الإيراني، فقد أثبت أنه ذا أهمية، فقد أصبحت تركيا من حين لآخر قاعدة للعمليات ضد إسرائيل، وداعمة لحماس، وصوتًا مهمًا لعداء الصهيونية على المستوى الدولي. لكن في بعض الأحيان، يقرر الرئيس رجب طيب أردوغان أنه يحتاج إلى إسرائيل ويعمل على دفء العلاقات بطريقة تعاملية واضحة. كما استمرت أيضا التجارة والسياحة في السراء والضراء.
كان لليسار العالمي سجل غير منتظم فيما يتعلق بإسرائيل قبل عام 1967، حيث لعب الاتحاد السوفيتي دورًا حاسمًا في ظهور الدولة، وكان الليبراليون الأمريكيون ينظرون إليها بشكل أفضل من المحافظين (مثلا الاختلاف ما بين ترومان وأيزنهاور). بدأ التحول عن إسرائيل عندما اكتشف اليسار الفلسطينيين وجعلهم ضحيته الأكثر تفضيلاً. وبلغ العداء اليساري لإسرائيل ذروته في عام 2001 بمؤتمر ديربان للأمم المتحدة "ضد العنصرية والتمييز العنصري وكراهية الأجانب وما يتصل بذلك من تعصب،" حيث اجتمع العديد من الجهات لانتقاد إسرائيل ونبذها. منذ ذلك الحين، أصبح اليسار، بدءًا من الرأي العام الأوروبي إلى النقابات الماركسية في الهند إلى السياسيين جيريمي كوربين في بريطانيا وغابرييل بوريك في تشيلي، معاديًا بشكل متزايد للدولة اليهودية.
مظاهرة مناهضة لإسرائيل خارج الجلسة الافتتاحية لمؤتمر ديربان، 31 أغسطس 2001. |
وهكذا انقسم الصراع العربي الإسرائيلي إلى صراعات فلسطينية-إسرائيلية، وإسلامية-إسرائيلية، ويسارية-إسرائيلية.
خواطر
هذه التطورات لها تأثيران رئيسيان على إسرائيل.
أولاً، انتصرت إسرائيل على الدول العربية، بسكانها ومواردها واقتصاداتها وثقلها الدبلوماسي، وهو إنجاز يستحق اهتمامًا أكبر بكثير مما حظيت به. في عام 1994 على سبيل المثال، قال رئيس أركان الجيش الإسرائيلي آنذاك إيهود باراك أنه "في المستقبل المنظور، لا يزال التهديد الرئيسي لدولة إسرائيل يتمثل في هجوم شامل من قبل الجيوش التقليدية." هذا العام، أصر الاستراتيجي الإسرائيلي إفرايم إنبار على أن "فكرة تعايش الدول العربية والدولة اليهودية بسلام ... تتجاهل الواقع على الأرض."
صحيح، لم توقع أي دولة عربية وثيقة استسلام أو اعترفت بالهزيمة بطريقة أخرى، لكن الهزيمة كانت واقعهم. بعد خوض معركة بالبنادق المشتعلة في عام 1948 وتوقع القضاء بسهولة على دولة إسرائيل الوليدة، أدرك الحكام في القاهرة وعمان ودمشق وأماكن أخرى بشكل تدريجي على مدى ربع قرن أن الصهاينة المحتقرين يمكن أن يضربوهم في كل مرة، بغض النظر عمن بدأ بالهجوم المفاجئ، بغض النظر عن التضاريس، بغض النظر عن تطور الأسلحة، بغض النظر عن الحلفاء من القوى العظمى. يشكل تفكك العداء العربي تحولا جذريا في الصراع العربي الإسرائيلي.
ومع ذلك، قد يستغرق تأكيد النصر الدائم عقودًا عديدة. بدت روسيا وطالبان مهزومين في عامي 1991 و-2001 على التوالي، لكن عودة ظهورهما في عام 2022 شككت في ذلك.[1] يبدو أن إحياء موازٍ غير محتمل بالنسبة للدول العربية، لكن الإخوان المسلمين يمكن أن يستولوا على مصر مرة أخرى، وقد تقع الملكية الأردنية في أيدي الراديكاليين، وقد تصبح سوريا كاملة مرة أخرى، ويمكن أن يصبح لبنان دولة موحدة تحت حكم حزب الله. نستطيع أن نقول بثقة أن الدول العربية قد هُزمت على الأقل في الوقت الحالي.
هذه الهزيمة تطرح سؤالا واضحا: هل تقدم نموذجا للهزيمة الفلسطينية؟[2] جزئيا نعم. إذا كان من الممكن إجبار الدول ذات الأغلبية المسلمة على الاستسلام، فإن ذلك يدحض الفكرة الشائعة بأن الإسلام يجعل المسلمين محصنين ضد الهزيمة.
لكن في الجزء الأكبر لا. أولاً، تعتبر إسرائيل قضية بعيدة جداً بالنسبة لسكان الدول العربية منها بالنسبة للفلسطينيين. فمثلا لا يهتم المصريون بجعل القدس عاصمة لفلسطين أكثر من اهتمامهم بتركيب أنظمة صرف صحي مناسبة. وقد استهلكت الحرب الأهلية السوريين منذ عام 2011. ثانيًا، تقدم الدول التسويات بسهولة أكبر من الحركات الإيديولوجية بسبب مصالح الحكام المتعددة والمتنافسة. ثالثًا، كون الحكومات هياكل هرمية – وخاصة الأنظمة الاستبدادية للعرب – يمكن لفرد واحد (مثل أنور السادات أو محمد بن سلمان) أن يغير سياسته بشكل جذري. لا أحد يتصرف بهذه القوة في منظمة التحرير الفلسطينية أو حماس. وهكذا تصبح صراعات الدول العربية مع إسرائيل أكثر قابلية للحل وأكثر عرضة للتغيير من الصراع الفلسطيني.
رابعًا، على الرغم من المزاعم حول العدوان الإمبريالي الموجه ضدهم، لم تصور الدول العربية الكبيرة نفسها أبدًا بشكل مقنع على أنها ضحايا لإسرائيل الصغيرة، وهو الأمر الذي فعله حتى أصغر الفلسطينيين بمهارة كبيرة مما جعل المنظمات الدولية تتعاطف معهم ومنحهم جمهورا عالميا فريدا. أخيرًا، فإن معاهدات السلام القديمة مع مصر والأردن واتفاقيات إبراهيم الأخيرة لها أهمية كبيرة في حد ذاتها ولكن ليس لها دور في تقليص العداء الفلسطيني الكامل تجاه إسرائيل. وبالمثل، فإن الجماعات الفلسطينية – الإسلاميون، وطهران وأنقرة، واليساريون العالميون – تتجاهل تمامًا الاتفاقات. إذا كان الفلسطينيون الضحايا فقط مهمين، فإن انسحاب الدول العربية لا علاقة له بالموضوع.
لهذه الأسباب، انسحبت الدول العربية بعد 25 عامًا فقط من العداء لإسرائيل، لكن الفلسطينيين استمروا في العمل لمدة 50 عامًا.
السيد بايبس هو رئيس منتدى الشرق الأوسط. © 2022 دانيال بايبس. جميع الحقوق محفوظة.
[1] يشير هذا إلى الملاحظة الشهيرة التي أدلى بها رئيس الوزراء الصيني تشو إنلاي في عام 1972 والتي مفادها أنه "من السابق لأوانه" تقييم تأثير الثورة الفرنسية عام 1789. في الواقع، كان يشير في ذلك الوقت إلى اضطرابات الطلاب الفرنسيين عام 1968، لكن الاقتباس الخاطئ يعبّر عن حقيقة عميقة.
[2] لقد دافعت عن هذا الهدف في "إستراتيجية جديدة للنصر الإسرائيلي"، Commentary، يناير 2017.