يسأل الكاتب اليميني دانيال بايبس عن هدف الحرب على العراق، ويقول ان الحكومة الأميركية أوضحت هذا الأمر قائلة: "الهدف هو عراق حرّ ومسالم"، وهو ما "يعتبر ضرورياً لأمن الشعب الأميركي".
ولعل العراق الذي تطمح واشنطن الى تحقيقه هو على صورة أميركا: ديمقراطي وليبرالي ورأسمالي يسود فيه حكم القانون. ورغم أني متعاطف مع هذه الرؤية التي قد يطمح اليها الجميع، لكنني أخشى ان اقول ان العراقيين لا يرحبون بالتوجيهات والارشادات الأميركية ما يجعل هذه الطموحات في العراق غير واقعية.
ان افكاري هذه وقلقي يشرحها البروفسور في هارفارد صموئيل هانتغتون في كتابه "من نحن: التحديات التي تواجهها هوية اميركا القومية".
يحلل هانتغتون في هذا الكتاب الذي سيصدر هذا الشهر وقع الثقافات الوافدة في أميركا عن طريق الهجرة وتعدد اللغات والحضارات وتفريغ المواطنية من محتواها ونزع الصفات القومية عن النخب الأميركية. ويقول البروفسور في هارفارد ان علينا تأكيد القيم الأميركية ودعمها لتصمد في وجه هذه التحديات. ويذكر هانتغتون أن الأميركيين يستطيعون اختيار واحدة من بين ثلاث رؤى لبلادهم:
العالمية: "أميركا ترحب بالعالم وأفكاره وبضائعه وشعوبه". ضمن هذه الرؤية، تحاول أميركا ان تصبح متعددة الحضارات والأعراق. وسيكون للأمم المتحدة والمنظمات الدولية الأخرى تأثير كبير في الحياة الأميركية. والتنوع هدف بحد ذاته في هذه الرؤية، لكن الهوية القومية تضعف أهميتها، وهو ما يؤدي الى اعادة تشكيل اميركا (من قبل العالم).
أميركا الامبريالية: وهي التي تعيد تشكيل العالم، والدافع لذلك هو الايمان بتفوق اميركا و"عالمية" القيم الأميركية، أي صلاحها (للتطبيق) لمختلف البلدان والحضارات. ان تفرد اميركا العسكري والاقتصادي والثقافي وتفوقها قد يمنحها المسؤولية لمواجهة الشرّ وإملاء ما تريد على العالم. ويفترض ان تشارك الشعوب الأخرى اميركا في قيمها، وعلى الأميركيين ان يساعدوا هذه الشعوب على الوصول الى تحقيق هذه القيم (الأميركية). وضمن هذه الرؤية، تصبح أميركا أكثر من أمة، بل "الكيان السياسي المسيطر على امبراطورية تتخطى حدود الدول".
القومية: اميركا مختلفة، وشعبها يعترف ويقرّ بالقيم والصفات التي تميّزها عن غيرها من الأمم. والفرق ينتج عن التزام أميركا الديني وحضارتها الانغلو- بروتستانتية. ان النظرة القومية تحافظ على هذه الصفات وتعمل على تحسينها؛ تلك الصفات التي حدّدت هوية اميركا وشكلت الامة الاميركية منذ قيامها.
أما بالنسبة للناس الذين ليسوا انغلوساكسونيين بروتستانت، فإنهم يصبحون أميركيين من خلال التأقلم وتبنّي الثقافة الانغلوساكسونية وقيمها السياسية. ويختصر هانتغتون ما يعنيه في هذه الرؤية بالجملة التالية: "أميركا تصبح العالم. العالم يصبح أميركا. لكن أميركا تبقى أميركا".
وفي حين يتبنّى اليسار الأميركي الرؤية العالمية، ينقسم اليمين الأميركي بين معتنق للرؤية الامبريالية ومؤيّد للقومية. أنا شخصياً أتأرجح بين الرؤيتين الأخيرتين، وأشعر احياناً ان على أميركا تصدير رسالتها الإنسانية والسياسية، لكن في حين آخر اشعر ان جهوداً كهذه، مهما كانت مرغوبة، قد تجهد القدرات الأميركية وتنتهي بكارثة.
هذا يعيدنا الى موضوع العراق والخيارات المطروحة.
ان أصحاب الرؤية العالمية يرفضون التفرّد في حملة العراق، ويحتقرون فكرة توجيه العراق نحو بناء بلد حرّ ومسالم، ويشكّون بنوايا الادارة الأميركية ودوافع الرئيس الأميركي جورج بوش. لذلك يقومون بالتظاهرات ضد الحرب ويروّجون لمعارضتها في وسائل الاعلام.
ان أصحاب الرؤية الامبريالية يوجهون الآن السياسة الأميركية في العراق حيث يجدونها فرصة فريدة لاعادة تأهيل البلاد ونشر القيم الأميركية في الشرق الأوسط.
أما القوميون فإنهم يجدون أنفسهم بين الفئتين، ويتعاطفون مع الرؤية الامبريالية ويقلقون من تطبيقها وعواقبها. وكمواطنين مخلصين ووطنيين، فإنهم يفخرون بالانجازات الأميركية ويأملون ان يمتد النفوذ الأميركي. لكن لديهم قلقاً تجاه أمرين: ان يكون العالم غير جاهز للأمركة، وان يكون الأميركيون غير مستعدين للتضحية بالنفس والنفيس لتحقيق هذه الرسالة الامبريالية.
لا شك ان هانتغتون يمكن تصنيفه ضمن الرؤية القومية. أما أنا فلا يمكن تصنيفي بهذا الوضوح.
اعتقد ان هدف الشعب الأميركي في العراق يجب ان ينحصر في حماية المصالح الأميركية. وفي حين آمل ان يستفيد الشعب العراقي من الاطاحة بصدام حسين ويبدأ حياة جديدة، أرفض فكرة اعادة تأهيل العراق وجعل النجاح في مهمة كهذه نقطة الفصل للحكم على الحملة الأميركية هناك.
ان الآلة العسكرية الأميركية ليست مؤسسة للقيام بالأعمال الاجتماعية والخيرية، كما انها ليست آلة هدفها اعادة تشكيل العالم. انها مبدئياً وسيلة لحماية الأميركيين من التهديدات الداخلية والخارجية. ان الهدف الأميركي لا يمكن ان يكون عراقاً حرّاً، بل عراق لا يهدّد أمن الأميركيين.