في الربيع الماضي، اختارت هيئة تدريس كلية هارفارد طالبا متخرجا "سنيور" يُدعى زايد ياسين لإلقاء كلمة في احتفال التخرج في يونيو/ حزيران. عندما تم الإعلان عن عنوان الكلمة "جهادي الأميريكي" – أثار بطبيعة الحال العديد من الأسئلة. كان أحد الأسئلة، لماذا هذا الموضوع، هل ترغب هارفارد في الترويج لمفهوم الجهاد - أو "الحرب المقدسة" - وبعد شهور قليلة فقط من مقتل آلاف الأمريكيين على أيدي تسعة عشر خاطفا انتحاريا يجاهدون باسم الإسلام؟ وكان عند ياسين، وهو رئيس سابق لجمعية هارفارد الإسلامية، جواب جاهز. وقال إن ربط الجهاد بالحرب هو سوء فهم له، "فالجهاد في التقاليد الإسلامية يمثل صراعا من أجل القيام بالشيء الصحيح." وأضاف ياسين أن هدفه هو "استعادة الكلمة لمعناها الحقيقي، وهو الصراع الداخلي".
في الخطاب نفسه، يشرح ياسين هذه النقطة باستفاضة:
إن الجهاد، في أروع صوره وأكثرها صدقا ونقاءً، وهي الصورة التي يطمح إليها جميع المسلمين، هو العزم على القيام بما هو صواب وحق والتصميم عليه، والتمسك بالحق والعدل حتى ولو كان ضد المصالح الشخصية الخاصة. إنه كفاح فردي من أجل السلوك الأخلاقي الشخصي. خصوصا اليوم، هو صراع موجود على العديد من المستويات: تطهير الذات والوعي، خدمة المجتمع، والعدالة الاجتماعية. على الصعيد العالمي، هو صراع وكفاح يشارك فيه الناس من جميع الأعمار والألوان والمعتقدات، للسيطرة على القرارات الكبيرة: ليس فقط من الذي يسيطر على قطعة الأرض هذه أو تلك، ولكن الأهم من الذي يحصل على الدواء، ومن يمكن أن يأكل.
هل يمكن أن يكون هذا صحيحا؟ ومن المؤكد أن ياسين ليس عالما في الإسلام، وكذلك عميد كلية هارفارد مايكل شيناغل ليس بعالم في الإسلام هو الآخر، ذلك العميد الذي أيد بحماس "الكلمة الرصينة والعميقة" وأعلن باسمه وعن نفسه أن الجهاد هو نضال شخصي "لتعزيز العدالة والتفاهم في أنفسنا وفي مجتمعنا." رغم ذلك، فإنهما يعكسان بدقة إجماع الاختصاصيين الإسلاميين في مؤسستهما التعليمية. في هذا الإطار، قال ديفيد ليتل، وهو أستاذ هارفارد للدين والشؤون الدولية، بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، أن الجهاد "ليس رخصة للقتل"، بينما بالنسبة لديفيد ميتن، أستاذ الفن الكلاسيكي وعلم الآثار وكذلك مستشار هيئة التدريس لجمعية هارفارد الإسلامية، الجهاد الحقيقي هو "النضال المستمر للمسلمين من أجل قهر الغرائز الأساسية الداخلية، ومتابعة الطريق إلى الله، وعمل الخير في المجتمع." وفي سياق مشابه، أكد أستاذ التاريخ روي متحده أن "غالبية المفكرين المسلمين من أصحاب العلم، ومن أولئك الذين يعتمدون وينهلون من علم وخبرة لا تشوبهما شائبة، إنما يصرون على أن الجهاد يجب أن يفهم على أنه نضال بلا سلاح."
وليس علماء وأساتذة هارفارد استثناء في هذا الصدد. والحقيقة هي أن أي شخص يسعى إلى الفهم وشيئ من التوجيه بخصوص مفهوم الإسلام عن الجهاد، وهو مفهوم غاية في الأهمية، لن يحصل من أعضاء هيئات التدريس الجامعية في جميع أنحاء الولايات المتحدة إلا على شرح واحد متطابق تقريبا. وبناء على ما تبين لي من خلال فحص البيانات الإعلامية من قبل هؤلاء المتخصصين بالجامعات، فإنهم يميلون إلى تصوير ظاهرة الجهاد بطريقة مشابهة لا تخفى على أحد، إلا أن هذا التصوير أوالوصف ما هو إلا وصف أوتصوير كاذب وزائف.
لقد قمت بمسح لما يزيد عن 24 خبيرا، نشأ عنه العديد من القضايا والمواضيع المرتبطة ببعضها البعض.* حيث اعترف أربعة منهم فقط بأن الجهاد يتضمن عنصرا عسكريا، بل إنهم، باستثناء واحد فقط، يصرون على أن هذا العنصر دفاعي بحت. فاليري هوفمان من جامعة إلينوي هي استثناء فريد في قولها (الذي قام صحفي بإعادة صياغته): "لم يؤيد أي مسلم تعرفه مثل هذا الإرهاب [مثل هجمات 11 سبتمبر]، لأنه يتنافى مع قواعد الاشتباك والحرب الإسلامية." لا يوجد باحث آخر يذهب إلى حتى هذا التلميح الضمني بأن الجهاد يتضمن عنصرا هجوميا اعتدائيا.
وهكذا، يرى جون إسبوزيتو من جورج تاون، وربما هو أبرز العلماء الأكاديميين في الإسلام، أن "في النضال من أجل أن يكون المرء مسلما جيدا، ربما تكون هناك أوقات يُدعى فيها للدفاع عن إيمانه ومجتمعه، ومن ثم يمكن أن يكتسب [الجهاد] معنى الكفاح المسلح." وهناك خبير آخر يتبنى وجهة النظر هذه وهو عبد الله أحمد النعيم من إموري، الذي يذهب إلى القول بأن "الشريعة الإسلامية (القانون الإسلامي) يحرم الحرب وينهى عنها إلا في حالتين: الدفاع عن النفس، ونشر العقيدة الإسلامية." ووفقا لبليك بيرلسون من بايلور، فإن ما يعنيه هذا هو أنه في الإسلام، فإن عملا عدوانيا مثل 11 سبتمبر "لن يعتبر حربا مقدسة".
وبالنسبة لستة باحثين آخرين شملتهم دراستي في دراسة أراء أساتذة الجامعات، فإن الجهاد قد يشمل أيضا الاشتباكات والعمليات، إلا أن هذا المعنى هو في حد ذاته ثانوي بالنسبة للمفاهيم السامية للجهاد أي مفاهيم التحسين الذاتي الأخلاقي. يقول تشارلز كيمبل، رئيس قسم الدين في ويك فوريست، في كلمات واضحة محددة: الجهاد "يعني النضال أو العمل من أجل الله. والجهاد الأعظم عند معظم الملسمين هو تأديب النفس. والجهاد الأصغر هو القتال الدفاعي." ومن أمثلة الباحثين والعلماء الذين يتكلمون بمعان مشابهة محمد صديقي من غرب إلينوي، وجون إسكندر من جامعة ولاية جورجيا، ومارك وودارد من جامعة ولاية أريزونا، طه جابر العلواني من كلية الدراسات العليا للعلوم الإسلامية والاجتماعية في ليسبورغ، فيرجينيا، وباربرا ستواسر من جورج تاون.
لكن مجموعة أكبر- تسعة من الذين شملتهم الدراسة- ينكرون أن للجهاد أي معنى عسكري على الإطلاق. بالنسبة لجو إلدر، أستاذ علم الاجتماع في جامعة ويسكونسن، فإن فكرة أن الجهاد يعني الحرب المقدسة هو "تفسيرأو فهم خاطيء تماما." بل يقول أن الجهاد "صراع ديني يعكس بشكل أعمق الصراعات الداخلية والشخصية للدين." بالنسبة لديل ديشانت، أستاذ الأديان العالمية في جامعة جنوب فلوريدا، فإن الكلمة "تُفهم عادة" بأنها تعني "العمل والصراع كي يكون المرء عبدا مخلصا لإرادة الله ولا تعني الحرب المقدسة".
وقد أعرب آخرون عن آراء تتفق مع الأراء السابقة، ومن بينهم جون كلساي من جامعة جون كارول، زاهد بخاري من جورج تاون، وجيمس جونسون من روتجرز. يؤكد روكسان يوبين من كلية وليسلي، مؤلف كتاب "الطريق إلى قندهار: أصول الجهاد في الفكر السياسي الإسلامي الحديث،" أنه "بالنسبة للعديد من المسلمين، الجهاد إنما يعني مقاومة الغواية وأن يصبح المسلم شخصا أفضل." جون بارسيلس، أستاذ الفلسفة والدراسات الدينية في جامعة جورجيا الجنوبية، يُعرف الجهاد بأنه صراع "بين الشهوات وإرادتك." أما نيد رينالدوتشي، أستاذ علم االجتماع في جامعة أرمسترونج بولاية أطلنطا، فيرى أن أهداف الجهاد هي: "داخليا، أن يكون المرء مسلما جيدا صالحا، وخارجيا، خلق مجتمع عادل." ويصف فريد إسيك، أستاذ الدراسات الإسلامية في مدرسة أوبورن في مدينة نيويورك، الجهاد بأنه "مقاومة الفصل العنصري أو العمل من أجل حقوق المرأة."
وأخيرا، هناك مجموعة من الأكاديميين الذين يركزون على مفهوم الجهاد بمعنى "تطهير الذات" ثم المضي قدما في تعميمه، وتطبيقه على غير المسلمين فضلا عن المسلمين. وهكذا، بالنسبة لبروس لورانس، وهو أستاذ بارز في الدراسات الإسلامية في جامعة دوك، لا يكون مصطلح الجهاد نفسه فقط على درجة عالية من المرونة ("يصبح المرء طالبا أفضل، زميلا أفضل، شريكا تجاريا أفضل، وقبل كل شيء، قادرا على السيطرة على غضبه")، ولكن يجب على غير المسلمين أيضا "تربية وتطوير ... فضيلة مدنية تُعرف باسم الجهاد":
الجهاد؟ نعم، الجهاد. . . الجهاد الذي سوف يكون صراعا حقيقيا ضد قصر نظرنا وإهمالنا بقدر ما هو ضد الآخرين الذين يدينونا أو يكرهوننا بسبب ما نفعله، وليس بسبب ما نحن عليه. . . . بالنسبة لنا نحن الأميركيون، فإن الجهاد الأكبر يعني أننا يجب أن نراجع السياسات المحلية والخارجية الأمريكية في عالم لا يعمل إلا قليلا على تعزيز العدالة للجميع.
وهنا نجد أنفسنا قد عدنا إلى المشاعر التي أعرب عنها المتحدث في حفل تخرج طلاب هارفارد، في سعيه إلى إقناع جمهوره بأن الجهاد أمر يجب أن يعجب به جميع الأمريكيين.
مشكلة هذا الاعتقاد أو الفهم المتراكم لدى هؤلاء العلماء والباحثين هي مشكلة يسهل تحديدها والتعبير عنها. فهذا الاعتقاد أو الفهم إنما يوحي بأن أسامة بن لادن لم يكن لديه فكرة عما كان يقوله عندما أعلن الجهاد على الولايات المتحدة قبل عدة سنوات، ثم قتله الأميركيين في الصومال، وفي السفارات الأمريكية في شرق أفريقيا، وفي ميناء عدن، ثم في الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول، 2001. مشكلة هذا الفهم أنه يعني أن المنظمات التي تحمل أسماؤها كلمة "الجهاد،" بما في ذلك الجهاد الإسلامي الفلسطيني و"الجبهة الإسلامية الدولية للجهاد ضد اليهود والحرب الصليبية والصليبيين" التي أسسها بن لادن، هي منظمات تحمل أسماء خاطئة. كذلك ماذا عن جميع المسلمين الذين يشنون أعمالا عنيفة وعدوانية، تحت هذا الاسم وفي هذه اللحظة بالذات في الجزائر ومصر والسودان والشيشان وكشمير ومينداناو وأمبون وغيرها من الأماكن حول العالم؟ ألم يسمعوا أن الجهاد هو أمر يسيطر به المرء على غضبه؟
ولكن بطبيعة الحال إنه بن لادن والجهاد الإسلامي والجهاديين في جميع أنحاء العالم هم الذين يُعرفون المصطلح، وليس مجرد جماعة صغيرة من المدافعين الأكاديميين عن الإسلام. والأهم من ذلك أن الطريقة التي يفهم بها الجهاديون هذا المصطلح تتماشى مع استخدامه خلال أربعة عشر قرنا من التاريخ الإسلامي.
في أوقات ما قبل الحداثة، كان الجهاد يعني عند المسلمين السنة في المقام الأول شيئا واحد، والآن يعني نفس الشيء عند أغلبية المسلمين.** وأقصد أن الجهاد كان يعني الجهد الجماعي (جهد الأمة) الإلزامي (فرض) والشرعي القانوني لتوسيع الأراضي التي يحكمها المسلمون (المعروفة في اللغة العربية باسم دار الإسلام) على حساب الأراضي التي يحكمها ويسيطر عليها غير المسلمين (دار الحرب). وفي إطار هذا المفهوم السائد، فإن هدف الجهاد هو هدف سياسي وليس ديني. فالجهاد لا يهدف إلى نشر العقيدة الإسلامية بقدر ما يهدف لتوسيع نطاق السلطة الإسلامية السيادية (على الرغم من أن الهدف الأول كثيرا ما كان يتبع الثاني). والهدف كما هو واضح عدائي وجريء، وهدفه النهائي ليس أقل من تحقيق الهيمنة الإسلامية على العالم أجمع.
من خلال الاستيلاء على الأراضي وتقلص حجم المناطق التي يحكمها غير المسلمين، فإن الجهاد يحقق هدفين: فهو يُظهر بجلاء إدعاء الإسلام بأنه جاء كي يحل محل الديانات الأخرى، وأنه جاء بنعمة العدل للنظام العالمي. على حد تعبير مجيد خدوري من جامعة جونز هوبكنز، والذي كتبه عام 1955 (قبل أن يغزو مفهوم الصواب السياسي الجامعات ]وهو الاعتقاد بضرورة تجنب اللغة والممارسات التي يمكن أن تؤذي المشاعر السياسية للآخرين- المترجم[)، الجهاد هو "وسيلة وأداة لتعميم الدين الإسلامي أو نشره في العالم بأسره وإقامة دولة عالمية إمبريالية."
أما بالنسبة للظروف التي يمكن أن يتم فيها الجهاد، ومتى، وعلى يد من، وضد من، وكيفية إعلان الحرب، وكيفية إنهائها، وكيفية تقسيم الغنائم، وهلم جرا- فهي أمور عمل علماء الدين الإسلامي عليها وبتفصيل كبير على مر القرون. إلا أنهم أجمعوا تماما على المعنى الأساسي للجهاد- قتال غير المؤمنين لتوسيع أرض الإسلام. على سبيل المثال، أهم مجلد جمع ما يسمى بالحديث(وهي تقارير أو شهادات عن أقوال وأفعال محمد)، هو كتاب أو مجلد يُدعى صحيح البخاري، نجده يتضمن 199 إشارة إلى الجهاد، وكل واحدة منها تشير إليه بوصفه حربا وقتالا ضد غير المسلمين . وللاستشهاد بمعجم الإسلام لعام 1885، فإن الجهاد "واجب ديني قائم، أساسه القرآن والسنة ]الحديث[ بوصفه واجب ومؤسسة مقدسة، وهو فرض غايته النهوض بالإسلام وصد الشر عن المسلمين."
لم يكن الجهاد واجبا نظريا مجردا على مر القرون، ولكن كان جانبا رئيسيا في حياة المسلمين. وبالإحصاء والعد، شارك محمد نفسه في 78 معركة أو غزوة، منها واحدة فقط كانت دفاعية (غزوة الخندق). في غضون قرن بعد وفاة النبي في عام 632، وصلت الجيوش الإسلامية إلى الهند في الشرق واسبانيا في الغرب. على الرغم من أن مثل هذا التوسع المفاجئ الدرامي لم يتكرر مرة أخرى، إلا أن الانتصارات الهامة في القرون اللاحقة تضمنت سبع عشرة حملة على الهند بقيادة محمود الغزنوي (998-1030)، ومعركة مانزيكيرت في فتح الأناضول (1071)، وغزو وفتح القسطنطينية (1453)، وانتصارات عثمان دان فوديو في غرب أفريقيا (1804-17). باختصار، لم يكن الجهاد فقط أمرا أساسيا في عقيدة المسلمين في عصور ما قبل الحداثة وإنما كان أيضا جزءاً من حياتهم.
ولكن ظل للجهاد معنيان مختلفان على مر العصور، أحدهما أكثر راديكالية وتطرفا من المعنى الأساسي المعياري، وآخر سلمي. الأول، يرتبط أساسا بالمفكر ابن تيمية (1268-1328)، حيث يرى أن من ولدوا مسلمين ولكن لا يقومون بمتطلبات إيمانهم هم غير مؤمنين، وبالتالي هم أهداف مشروعة للجهاد. وكان هذا الفهم والمعنى معلوم عند الجميع (وهو ما كان عليه الحال في كثير من الأحيان) عندما كان الحاكم المسلم يشن حربا ضد آخر؛ فيصفه ويحكم عليه بأنه ليس مسلما كما ينبغي وبالتالي تصبح حربه عليه جهادا يُحتفى به.
أما المعنى الثاني، وهو الذي يرتبط عادة بالصوفيين، أو الباطنيين المتصوفين المسلمين، فهو العقيدة التي تترجم عادة على أنها "الجهاد الأكبر،" ولكن ربما كان من المفيد أن يطلق عليها "الجهاد الأعلى." هذا المعنى الصوفي يتطلب أساليب تفسير مجازية لقلب معنى الجهاد الحرفي وهو النزاع المسلح رأسا على عقب، كي يدعو بدلا من ذلك إلى الانسحاب من العالم إلى النضال ضد الغرائز الأساسية للمرء سعيا وراء الوعي الروحي بالذات الإلهية والعمق الروحي. ولكن كما أشار رودولف بيترز في كتابه الجدير بالقراءة والاعتماد عليه: الجهاد في الإسلام الكلاسيكي والحديث (1995)، فإن هذا التفسير "لم يكن أحد يتطرق إليه" في الكتابات الشرعية عن الجهاد في عصور ما قبل الحداثة.
في الغالبية العظمى من الحالات في عصور ما قبل الحداثة، كان الجهاد يدل على شيء واحد فقط: العمل المسلح ضد غير المسلمين. في العصور الحديثة، أصبحت الأمور بطبيعة الحال أكثر تعقيدا إلى حد ما، حيث خضع الإسلام لتغييرات متناقضة ناتجة عن اتصاله بالتأثيرات الغربية. وقد اتجه المسلمون الذين يتعاملون مع الغرب إلى تبني واحد من ثلاثة مقاربات واسعة: الإسلامية والإصلاحية والعلمانية. ولأغراض هذه المناقشة، قد نضع جانبا العلمانيين (مثل كمال أتاتورك)، لأنهم يرفضون الجهاد برمته، ونركز بدلا من ذلك على الإسلاميين والإصلاحيين. ولقد تمسكت كل جماعة منهما بمعاني مختلفة للجهاد بهدف تطوير تفسيراتهم الخاصة.
إلى جانب التزامهم بالمفهوم الأساسي للجهاد كحرب مسلحة ضد الكفار، تبنى الإسلاميون دعوة ابن تيمية لاستهداف المسلمين من غير المتقين الذين لا يحكمون بكتاب الله. وقد اكتسب هذا النهج بروزا متزايدا خلال القرن العشرين على يد مفكرين إسلاميين مثل حسن البنا (1906-49) وسيد قطب (1906-66) وأبو العلا مودودي (1903-793) وآية الله روح الله الخميني (1903 -89) بدعواهم إلى الجهاد ضد الحكام المسلمين الذين خانوا أمانة الإسلام ولم يطبقوا شرع الله وقوانين الإسلام. كل من الثوريين الذين أطاحوا بشاه إيران في عام 1979 والقتلة الذين اغتالوا الرئيس المصري أنور السادات بعد عامين من ذلك كانوا جميعا قد أعلنوا ولاءهم علنا لهذا المذهب. وكذلك فعل أسامة بن لادن.
وعلى النقيض من ذلك، يعيد الإصلاحيون تفسير الإسلام لجعله متوافقا مع الطرق الغربية. إنهم أولئك الذين- أساسا من خلال كتابات سير سيد أحمد خان، الزعيم الإصلاحي في القرن التاسع عشر في الهند - عملوا على تحويل فكرة الجهاد إلى عمل دفاعي محض متوافق مع أسس وقواعد القانون الدولي. هذا النهج، الذي تم وصفه في عام 1965 في موسوعة الإسلام،الرصينة والتي هي جديرة بالاعتماد عليها والثقة فيها، على أنه "نهج دفاعي تماما" يعود في أصوله إلى الفكر الغربي أكثر بكثير من الفكر الإسلامي. في يومنا هذا، تطور هذا النهج إلى ما أسماه مارتن كرامر "نوع من الكواكريزمية الشرقية،" وهو مع إحياء المفهوم الصوفي "للجهاد الأكبر"، ما شجع البعض على إنكار أن الجهاد يشمل أي عنصر عسكري على الإطلاق، وإعادة تعريف الجهاد بوصفه نشاط روحي أو اجتماعي خالص.
بالنسبة لمعظم المسلمين في العالم اليوم، هذه التحركات بعيدا عن المعنى لقديم للجهاد هي أمور قد وقعت منذ زمن بعيد نوعا ما. هم لا يرون في حكامهم أهدافا تستحق الجهاد ولا هم على استعداد ليصبحوا كويكرز (يؤمنون فقط الصداقة والمحبة). فالمفهوم الكلاسيكي للجهاد لا يزال يتردد صداه لدى أعداد هائلة منهم، كما ذكر ألفريد مورابيا، وهو أول عالم فرنسي في هذا الموضوع، في عام 1993:
إن الجهاد العدواني والحربي، الذي يقننه المتخصصون واللاهوتيون، لا يزال يتردد صداه الوعي الإسلامي، سواء الفردي أوالجماعي. . . . ومن المؤكد أن المعاصرين من المدافعين عن الإسلام يقدمون صورة لهذا الالتزام الديني يتطابق تماما مع المعايير المعاصرة لحقوق الإنسان، . . . ولكن الناس غير مقتنعين بهذا. . . . ولا تزال الغالبية الساحقة من المسلمين تحت التأثير الروحي للقانون . . . والذي شرطه الرئيسي هو الأمر بأن، وليس الأمل في أن، تكون كلمة الله هي العليا ومنتصرة في كل مكان في العالم.
وباختصار، فإن الجهاد في معناه الأساسي لا يزال قوة كبيرة في العالم الإسلامي، وهذا يفسر إلى حد كبير الجاذبية الهائلة لشخص مثل أسامة بن لادن في أعقاب 11 سبتمبر 2001 مباشرة.
وخلافا لما قاله خريج هارفارد "السنيور" في تأكيده وجزمه لجمهوره أن "الجهاد ليس بالأمر الذي يجعل شخصا يشعر بعدم الارتياح،" فإن هذا المفهوم تسبب ولا يزال يسبب ليس مجرد الانزعاج ولكن معاناة إنسانية لا توصف: على حد تعبير المختص السويسري بات ييور "الحرب، والتجريد، والذمية ]التبعية[، والرق، والموت." وكما يشير بات ييور، فإن المسلمين "لهم الحق كمسلمين في القول بأن الجهاد أمر حسن وروحي" إذا رغبوا في ذلك؛ ولكن على نفس المنوال، فإن أي وصف أمين صادق حقا يجب أن يعبر عن عدد لا يحصى من "الكفار الذين كانوا ولا يزالون ضحايا للجهاد" والذين لهم، مثلهم مثل ضحايا النازية أو الشيوعية، الحق في إعلان "رأيهم في الجهاد الذي يستهدفهم."
في خضم سعي الإسلاميين إلى المضي قدما في جدول أعمالهم داخل البيئات الغربية وغير الإسلامية- على سبيل المثال جماعات الضغط في واشنطن العاصمة، لا يستطيعون الإفصاح بصراحة عن وجهات نظرهم ويظلون في نفس الوقت لاعبين في المباراة السياسية. فلكي لا يثيروا المخاوف وحتى لا يعزلوا أنفسهم، فإن هؤلاء الأفراد والمنظمات عادة ما يُغلفون ويخفون نظرتهم الحقيقية بلغة معتدلة، على الأقل عند الحديث والتعامل مع الجمهور من غير المسلمين. عند الإشارة إلى الجهاد، يتبنى هؤلاء الأفراد والمنظمات مصطلحات الإصلاحيين، وتقدم أعمال الحرب على أنها ثانوية تأتي بعد هدف النضال الداخلي والتحسين الاجتماعي. وهكذا، فإن مجلس العلاقات الأمريكية الإسلامية، وهو الجماعة الإسلامية الأكثر عدوانية وبروزا في الولايات المتحدة، يصر على أن الجهاد "لا يعني'الحرب المقدسة' " وإنما هو"مفهوم إسلامي واسع يشمل الكفاح ضد الميول الشريرة داخل النفس، والنضال من أجل تحسين نوعية الحياة في المجتمع، والنضال في ساحة المعركة للدفاع عن النفس (على سبيل المثال، وجود جيش دائم للدفاع الوطني)، أو محاربة الطغيان أو القمع."
هذا النوع من الكلام هو تضليل خالص، يذكرنا بلغة جماعات الجبهة السوفياتية منذ عقود. ومن الأمثلة الدرامية على ذلك ما جرى في محاكمة جون ووكر ليندا، وهو مراهق مقاطعة مارين الذي انطلق من أجل الجهاد باسم نظام طالبان في أفغانستان. قال ليندا إلى هيئة المحكمة في جلسة الحكم عليه في مطلع تشرين الاول/ اكتوبر أنه بالاتفاق مع "عموم ومعظم المسلمين حول العالم" فهو يفهم الجهاد على انه مجموعة متنوعة من الانشطة التي تتراوح بين" السعي الى التغلب على الاخطاء الشخصية للمرء، إلى قول الحق ضد الظلم، إلى العمل العسكري في الدفاع عن العدالة."
جهادي يشرح دون خجل تعريفا مخادعا لأفعاله بعد أن تم إلقاء القبض عليه متلبسا وهو يقوم بعمل عدواني مسلح من أعمال الحرب! هو أمر يبدو غير اعتيادي، لكنه يتماشى تماما مع شرح معنى الجهاد الذي يروج له المتخصصون الأكاديميون، فضلا عن المنظمات الإسلامية المشاركة في الحياة العامة. لمعرفة استخدام المصطلح في معناه البسيط الواضح، علينا أن نستمع ونقرأ للإسلاميين الذين لا يعملون ولا يشاركون في الحياة العامة. هؤلاء الإسلاميون يتكلمون بصراحة وعلنا عن الجهاد بمعناه الصحيح الحربي. وها هو أسامة بن لادن يقون: الله "يأمرنا بالكفاح المقدس، الجهاد، لرفع كلمة الله فوق كلمات الكفار." وها هو الملا محمد عمر، الرئيس السابق لنظام طالبان، يحث الشباب المسلم: "إلى الجهاد وبنادقكم جاهزة."
إنها فضيحة فكرية، فمنذ 11 سبتمبر 2001، يقوم أساتذة الجامعات الأمريكية مرارا وتكرارا وبإجماع بإصدار تصريحات علنية تتجنب المعنى الأساسي للجهاد في الشريعة الإسلامية والتاريخ الإسلامي وتتهرب منه وتزينه وتبيض وجهه. وهو أمر شبيه تماما بأن نتخيل مؤرخي أوروبا في العصور الوسطى ينكرون أن عبارة "حملة صليبية" كان لها في الماضي معنى عسكري حربي، بينما يستخدمون تعبيرات أو مصطلحات مثل "حملة صليبية على الجوع" أو "حملة صليبية ضد المخدرات" بهدف إثبات أن مصطلح "حملة صليبية" إنما يشير إلى جهد يُبذل لتحسين المجتمع.
لا شك في أن الكثيرين من المتخصصين الأكاديميين المعاصرين، الذين تعهدوا بتطهير هذا المفهوم الإسلامي الرئيسي وعرضه بطريقة تجعله يحظى بالقبول، إنما يتصرفون بدافع مما يسمى الصواب السياسي والرغبة في المحافظة على التعددية الثقافية من أجل حماية الحضارات غير الغربية من الانتقادات، وذلك من خلال جعلها تبدو مماثلة تماما لحضارتنا. أما بالنسبة للإسلاميين من بين هؤلاء الأكاديميين، فإن بعضهم على الأقل، مثل مجلس العلاقات الأمريكية الإسلامية كير وغيره من المنظمات المماثلة، له غرض مختلف، حيث يسعون إلى التمويه على مفهوم مضمونه التهديد من خلال جعله مقبولا في إطار خطاب الجامعة. قد يُنظر إلى الزملاء غير المسلمين الذين يشاركون في هذا الخداع، جنبا إلى جنب مع الإسلاميين، وكأنهم رضوا بدور الذمي ويعيشونه فعليا، والذمي هو وصف ومصطلح إسلامي للمسيحي أو اليهودي الذي يعيش تحت حكم المسلمين الذي يعاملونه بتسامح طالما انه ينحني ويركع ويقبل ويقر بتفوق الإسلام.
وأنا أشهد شخصيا، بأن من يجرؤ على المعارضة وينطق بالحق في مسألة الجهاد ينال لوما واستهجانا عظيما- وليس فقط في الجامعات. في يونيو من هذا العام، وفي نقاش مع إسلامي على نايتلاين بشبكة اي بي سي، قلت: "الحقيقة، تاريخيا - وأنا أتكلم كمؤرخ – أن الجهاد يعني توسيع دار الإسلام من خلال الحرب المسلحة." في الآونة الأخيرة، على برنامج لهرر نيوزهور من انتاج شبكة بي بي اس عن التمييز المزعوم ضد المسلمين في الولايات المتحدة، أظهر مقطع من ندوة أو حلقة دراسية عن لعب الأدوار، أجراها مجلس الشؤون العامة الإسلامية، كان "نشطاء" مسلمين يمارسون كيفية التعامل مع نقاد "عدائيين." وكجزء من هذا التدريب، عُرضت صورتي على الحلقة الدراسية بينما يتم بث تسجيل صوتي للجملة التي قلتها في نقاش نايتلاين. وكان تعليق راوي برنامج بي بي اس ما يلي: "انزعج نشطاء مسلمين من نقاد أدانوا علنا الإسلام كدين عنف وشر." وهكذا وصلنا إلى مرحلة تكفي الإشارة فيها إلى حقيقة معروفة جيدا عن الإسلام في أن يُتهم المرء بأنه متعصب عدواني على برنامج تلفزيوني مرموق وممول بأموال دافعي الضرائب.
الأمريكيون الذين يناضلون من أجل فهم مغزى الحرب المعلنة عليهم باسم الجهاد، سواء كانوا من صانعي السياسة أو صحفيين أو مواطنين، لديهم كل الأسباب التي تجعل الأمور تختلط عليهم بخصوص من هو عدوهم وما هي أهدافه. حتى الناس الذين يعتقدون أنهم يعرفون أن الجهاد يعني الحرب المقدسة هم أيضا عرضة للجهود المشتركة التي يقوم بها أساتذة الجامعات والباحثين والإسلاميين ملوحين ومهددين بمفاهيم مثل "مقاومة الفصل العنصري أو العمل من أجل حقوق المرأة.". والنتيجة هي واقع تخفيه السحب أو الضباب، وعرقلة إمكانية تحقيق فهم أمين وواضح لمن وماذا ولماذا نقاتل.
ولهذا السبب فإن تزييف حقيقة الجهاد بصورة عامة تقريبا من جانب علماء أكاديميين أمريكيين هو مسألة ذات نتائج بعيدة المدى، وينبغي أن تكون مصدر قلق عاجل ليس فقط لأي شخص على صلة بالحياة الجامعية أو يتأثر بها بصورة مباشرة- أعضاء هيئات التدريس الآخرين والإداريين والخريجين السابقين وممثلي الولايات والممثلين الاتحاديين وأولياء أمور الطلاب والطلاب أنفسهم - ولكن لنا جميعا.
* لمعرفة ما يقال للجمهور، قمت بدراسة المقالات الافتتاحية، والاقتباسات في المقالات الصحفية، والمقابلات التلفزيونية ولم أدرس المقالات التي تنشر في المجلات ذات الطابع المتخصص والعلمي.
** التحليل التالي يعتمد على دوغلاس ستريوساند، "ماذا يعني الجهاد؟"، ميدل إيست كوارتيرلي، سيبتمبر 1997.
...................................
تحديث بتاريخ 21 يونيو/ حزيران 2003: الفظيع أنطوني T. سوليفان لا يدافع فقط عن الجهاد في مقالته "فهم الجهاد والإرهاب"، ولكنه يستغل مكانته للتأثير في الآخرين بينما يقوم بذلك:
إن أفضل طريقة لاستيعاب المعنى الحقيقي للجهاد قد تكون من خلال تحليل الجذور اللغوية للكلمة، وللقيام بذلك، يجب على المرء أن يعرف اللغة العربية، وهو ما يفتقر إليه الكثير من المتحدثين والمعلقين المعاصرين حول هذا الموضوع.
تحديث بتاريخ 28 أبريل، 2008 : تقوم سينامون ستيلويل بتحديث تغطية هذا الموضوع في مقالتها "أساتذة دراسات الشرق الأوسط لا يزالون يُسوقون للجهاد السلمي"، حيث تعرض مقتبسات حديثة في نفس السياق لكل من ماري ريتشاردسون، محمد صاوي، تيموثي جيانوتي، أسعد أبوخليل، جيسيكا ستيرن، وعياد القزاز.
تحديث بتاريخ 17 مارس، 2016: كان سيئا بما فيه الكفاية عندما قام أساتذة الجامعات بالتمويه على حقيقة الجهاد باستخدام اللغة الانجليزية البسيطة. الآن، ومع تطور ما بعد الحداثة، يتكلمون بشكل غير مفهوم تقريبا بينما هم يحولون الجهاد إلى شيء لا يمكن التعرف عليه على الإطلاق. ويأتي هذا المقتطف من تغطية قام بها المعهد الدولي للفكر الإسلامي لحديث ألقته ألين ماكلارني الأستاذة المساعد للغة العربية والأدب والثقافة في جامعة ديوك، تناقش فيه كتاب لهبة رؤوف عزت:
كان مفهوم "القوة الناعمة" هو وسيلة عزت لإدراج المرأة في خطاب الجهاد اللاعنفي في الإسلام. طبقت د. ماكلارني هذه الفكرة في كتابها عن النساء في مصر باستخدام مفهوم "القوة الناعمة" كوسيلة لتحقيق صحوة إسلامية تضع حقوق المرأة والأسرة في مركز الاهتمام.
كان مفهوم "القوة الناعمة" عند عزت هو إعادة تفسير لمفهوم الجهاد ضمن إطار أنثوي يسماح للمرأة بالمشاركة في تشكيل بديل للدولة الاستبدادية. في الأساس، ذهبت عزت أن الأسرة كانت رمزا للدولة، وأن العلاقات داخلها تعمل على نحو مماثل لتلك الموجودة في جهاز الدولة. على سبيل المثال، كان يتم الاتفاق على العلاقة بين الزوجة والزوج في ميثاق مماثل للبيعة، بموجبه توافق الزوجة على السماح لزوجها بالحصول على حقوق حاكمة على الأسرة بينما يتحمل الزوج مسؤولية اتخاذ القرارات والحكم بطريقة تعود بالفائدة على الأسرة.